الأخبار

كيفه/ المهندس: عثمان آكجيل يكتب  ” لحراطين في موريتانيا : رؤية من واقع معيش”

المهندس: عثمان آكجيل يكتب  ” لحراطين في موريتانيا : رؤية من واقع معيش”

ليس من السهل الحديث عن شريحة اجتماعية عريقة كـ لحراطين، لما ارتبط بذكراها من صفحات مؤلمة في التاريخ، وما يحيط بها اليوم من سجالات فكرية وسياسية متباينة. غير أنني أود أن أطرح رؤيتي المتواضعة، لا انطلاقاً من تصورات نظرية أو دعايات إعلامية، بل من تجربة معيشة ومخالطة يومية، تفتح باب الشهادة لا الادعاء.

لقد درست مع إخوة من لحراطين، نشأنا في بيئة واحدة، وتربينا في ظروف متقاربة لا يختلف فيها حال أسرتي عن حال أسرهم، فمستوياتنا المادية كانت متقاربة، وأحوالنا الاجتماعية متشابهة. كنا نلبس اللباس نفسه، ونجلس على المقاعد نفسها، بل كثيراً ما كانوا في مظهرهم أحسن حالاً من بعضنا.

ومع تقدمنا في مراحل التعليم، بدأت تتضح الفوارق لا في الإمكانات، بل في الطموحات. إذ آثر جلّ أبناء جيلي من هذه الشريحة الكريمة ترك مقاعد الدراسة طوعاً، لينخرطوا في الأعمال الحرة، ويختصروا الطريق إلى الحياة العملية، بينما واصلنا نحن مشوار التعليم، نتحمل الغربة عن الأهل، ونكابد مشقة السكن عند الأقارب، ونناضل حتى نلنا شهادات عليا. عدنا بعدها إلى الوطن، فوجدنا سوق العمل ساحة قاسية، فيها الامتحانات تُكسب بالتحرير وتُفقد في الشفهي، وفيها التوازنات السياسية والمصلحية تطغى على ميزان الكفاءة والاستحقاق.

ولم أرَ في هذه المسيرة أثراً لـ التمييز العرقي المباشر، وإنما وجدت أن ما يعانيه أبناء لحراطين – وما نعانيه نحن معهم – إنما هو نتاج عقلية مصلحية وسياسية متجذرة، يمارسها بعض النافذين بغض النظر عن انتمائهم الاجتماعي، حتى من أبناء لحراطين أنفسهم حين يتولون مواقع القرار.

أما الإرث التاريخي، فلا أنكر أنه ترك في الذهن الجمعي آثاراً قد تحدّ من الطموح وتقلّص من الاستعداد للتضحية. غير أنّ جيلي – على الأقل – لم يعش تلك الحقبة، ولم يحمل منها سوى قصص متوارثة لا سلطان لها على سلوكنا ولا على تعاملنا. كنا نحرص دوماً على إشراك إخوتنا من لحراطين في الرأي والمشورة، وفي المشاركات المادية والاجتماعية، حتى يتسنى لهم اللحاق بركب من تجاوز هذه الحواجز من أبناء شريحتهم، جنباً إلى جنب مع إخوانهم من بقية مكونات المجتمع.

وفي قريتنا كندرة على وجه الخصوص، لم نعرف لفظ “عبد” ولا “حرطاني”، بل عرفنا أناساً نجلّهم ونحبهم، نبكي لآلامهم، ونفرح بأفراحهم، ونسوء لما يسوءهم. وما ذاك إلا لاعتقاد راسخ عندنا بأنّ القيم الإنسانية والدينية السامية أكبر من أن تختزل الإنسان في لون أو عرق أو ماضٍ اجتماعي.

إن قضية لحراطين في موريتانيا لا ينبغي أن تُختزل في خطاب مظلومية فقط، ولا في خطاب تنزيه مطلق، بل هي قضية وعيٍ متجدد ومسؤولية جماعية، قوامها الإنصاف في الفرص، وبث روح الطموح في الأجيال الصاعدة، وتجاوز رواسب التاريخ لصناعة واقع أفضل. ولعلّ ما عشته وعاصرته، يفتح نافذة أمل على أن هذا التحول ممكن، بل وضروري، لكل من يريد لهذا الوطن أن يتقدم بجميع أبنائه، لا ببعضهم فقط

المهندس: عثمان آكجيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى