مقالات

المحامي: الطباخ ذو الرداء الأسود

يميز الناس بعض المهنيين بلبوس خاص، فيعرفون المحامي بجبته السوداء (الروب) التي توجب جل القوانين المعاصرة على المحامين أن يدثروا بها إبان المرافعات (1)، ويعرف المشتغلون في ميادين الطب بقميص ناصع البياض يتقاسمه معهم مهنيون آخرون ركزت منهم على الطباخ، لا لمجرد لفت انتباه المتلقي وتحريك شهيته لقراءة المحتوى، وإنما لأهمية ما تنبشه المقارنة بين عمله وممارسة المحامي من معلومات وما توحي به من أفكار: فعلى الرغم من تباين لون اللبوس واختلاف الموائد والطابع الجزافي لطبخة المحامي وما يكتنف الحصول على مقابلها من صعاب مرده أن بعض العملاء يبخس الخدمة القانونية ويضن بمقابلها (2) على الرغم من ذلك التباين يلتقي المحامي والطباخ في نقاط تخدم إثارتها تطوير مشاريع المحامين ومنشآتهم، لذلك نركز في المحور الختامي، من هذه المعالجة، على سبق الطباخين في تطوير خدمتهم توجيها للمحامين، الساعين للتطوير، إلى تبني أساليب تسيير مستوحاة من عمل المطاعم المتقدم بالقياس إلى أداء مكاتب الزملاء (3).

1. المحامي والرداء الأسود
قلما تقترب، إبان وقت الدوام، من أحد مداخل قصور العدل في العالم إلا وتلاحظ أن الكثير من روادها يحمل على ذراعه الأيسر ثوبا أسود وعندما يدفعك الفضول لمتابعة أحد حامليه إلى داخل المبنى تجد أن الأمر يتعلق بجبة فضفاضة ذات أكمام واسعة يرتديها المحامون فوق ثيابهم قبل الولوج لقاعات المحاكم، ذلك الثوب هو المعروف في الرطانة القضائية الدولية “بالروب” la robe وهي تسمية فرنسية مقترنة بضمير التأنيث تعني الفستان الذي اتخذته المهنة رداء منذ أيام نشأتها وأصبح بذلة معترفا لها بها على مستوى العالم وانسجاما مع الأصل الأعجمي ركنت إلى تأنيث الروب في الاستخدام العربي بدل التذكير الذي يعتمده بعض الكتاب.

وتسرد الأدبيات في بداية اتخاذ الروب عدة حكايات من أشهرها أنه في سنة 1791 وبينما كان أحد القضاة الفرنسيين جالسا في شرفة بيته إذ شاهد الاعتداء على شخص وعاين كيف فر المتسبب في الفعل قبل أن يدنو أحد المارة من الضحية لإسعافها بنقلها لتلقي العلاج ولكن محاولات إنقاذها لم تفلح وبعد أن لفظت آخر أنفاسها ضبط المسعف واتهم واقتيد للمحاكمة أمام نفس القاضي الذي كان شاهد عيان لما حدث وبعد الاستنطاق والمرافعة أدين المنقذ استنادا إلى أن القاضي لا يحكم بعلمه وإنما على أساس ما تسفر عنه المحاكمة من أدلة وقرائن.. وإثر حكم الإعدام شعر القاضي بتأنيب ضمير شديد، عندما استحضر هول الظلم الذي تجسد في إدانة بريء، فدفعه ذلك للبوح بذنبه مما ألب الناس عليه.. وفي إحدى جلساته اللاحقة حضر أحد المحامين في ثوب أسود لافت فسأله القاضي، الذي أصدر حكم الإدانة، عن سر ذلك فأجاب بأنه يود لفت الانتباه لفداحة الظلم الذي تعرض له رجل أراد الإصلاح وأدى ذلك لإعدامه تنفيذا لحكم أصدره قاض يعلم يقينا بأنه أدان بريئا.

وجدير بالملاحظة أن الحكم وفق الأدلة والبراهين، بدل اعتماد القاضي على علمه ومشاهدته الشخصية، من الأحكام المعتمدة في الشريعة الإسلامية ففي حديث أم سلمة رضي الله عنها (المتفق عليه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار” وبتوفيق هذا الحديث مع كون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال عنه الخالق جل وعلا {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (الآيتان 3 و4 من سورة النجم) ندرك الحكمة الشرعية من وجوب تأسيس الأحكام على الأدلة والقرائن وهي الحرص على ركون الناس واطمئنانهم لأسباب الأحكام التي يتعين أن يشترك الجميع في استساغتها وتفهم أساسها.

ومن حكايات نشأة الروب أنها كانت في الأصل لباسا لرجال الدين الذين كانوا في مرحلة معينة يؤازرون الأطراف ويمتهنون المرافعة أمام المحاكم قبل أن تصبح البذلة شائعة لدى المحامين في كافة أرجاء العالم.

ويرجع آخرون بداية اتخاذ الروب إلى تاريخ روما القديمة ويوردون أنه بينما كان أحد مواطنيها في طريقه لمخبز يعمل به إذ وقف على جثة شخص فأبلغ الشرطة التي اتهمته ووضعته رهن الحبس وفيه تملكه حزن شديد عبر عنه بلبس جبة سوداء ولف قطعة قماش بيضاء حول عنقه وأسفرت المحاكمة عن لفت الانتباه لقضيته وتبرئته من التهمة.

وتجرم أغلب التشريعات ارتداء غير المحامي للروب ونحوها لما قد يحمله من انتحال صفة وغش وما قد يؤدي له من تحايل إذ قد يدفع الشخص للتعامل مع من يعرض حقوقه وممتلكاته للضياع ولذلك التجريم جذور تاريخية حيث ينقل أن بعض حكام المسلمين كان يؤدب من يرتدون لبوس القضاة دون وجه حق.

ونجد أن البذلة ظلت محافظة على شكلها ومواصفاتها العامة فقد كان لها امتداد خلفي على شكل ذيل يجره المحامي وراءه تحكى حول الهدف منه روايات منها أن يبقى الماشي خلف الأستاذ Maître على مسافة منه تحرزا من الهمس له والتأثير عليه وعندما لم يعد جر الذيل ملائما فضل المهنيون، بدل التنازل عن جزء من البذلة، ثنيه إلى باطن الثوب وتثبيته بشريط يرفعه لأعلى ويربطه بالروب على مستوى الكتف.

ويقوم بحياكة الروب خياطون مختصون يفصلون أجود أنواعها يدويا من قماش أسود (ياقة) ولها ملحقات تختلف من نظام لآخر كربطة عنق حريرية بيضاء تتدلى على الصدر في مستوى اللحية وكالكتفية ذات الزائدتين المتفاوتتين عرضا وطولا اللتين تنسدلان فوق الكتف الأيسر وتنتهيان بفروة بيضاء.. وقد كانت للمحامين قبعات متصلة بالروب ولكن العمل بها لم يعد جاريا في أغلب البلدان وعلى النقيض من ذلك أصبح القضاة في بعض الأنظمة الغربية يحرصون على أن يكون حضور العدالة حاسر الرؤوس ويعتبرون لبس العمامة في الجلسات انتقاصا من احترام القضاء.. وعلى الرغم من النظرة الغربية السلبية لتغطية الرأس فقد تمكنت بعض الجاليات الشرقية في بلاد الغرب من فرضه احتراما لتقاليدها كالسيخ الذين اعترف لهم القانون البريطاني استثناء بحق التمسك بالعمامة مع لباسهم الرسمي وأصبح محاموهم وقضاتهم يرتدونها بدل الشعر المستعار كما يرتديها رجال الأمن بدل القبعة وركاب الدراجات بدل الخوذة.. ومن الوارد أن نذكر أنه طبقا للأعراف والتقاليد الاجتماعية العربية، وبعكس النظرة الغربية، ترمز العمامة للوقار والاحترام وتعكس مستوى مرتفعا من مراعاة الأصول مما يجعل اعتماد الأنظمة العربية لها كمكمل للروبات واردا خاصة وأن إقرار غطاء الرأس بلون أبيض للجنسين يبدو غير متنافر، إن لم نقل منسجما، مع التقاليد المهنية التي تزاوج بين الأسود والأبيض.

وبغض النظر عن الاستثناءات فإن المبدأ الثابت أن “روبات” جميع المحامين الخاضعين لنفس النظام القانوني يجب أن تكون متماثلة لا فرق فيها بين لبوس الذكور والإناث ولا بين بذلة العميد الطاعن في المهنة والمتدرب الحدث خريج الجامعة فكلهم يرتدون رداء موحدا يرمز للمساواة ولا حرج في أن يطلب المحامي من الخياط التفاصيل التي تلائمه مما يقتضي حرية التصرف في المقاسات والأبعاد بشرط أن لا يلاحظ الناظر اختلافها عن النمط المتعارف عليه.. ومن التحسينات المغتفرة ما اعتمد في فرنسا، منذ الترخيص للإناث بمزاولة مهنة المحاماة في فاتح دجنبر 1900، من تثبيت أزرار بذلات المحاميات في الجانب الأيمن للروب مع الانسجام مع تقاليد البذلة التي تفضي بأن يكون عدد أزرارها ثلاثا وثلاثين (33).. وينبغي أن تنسدل الروب إلى حدود وسط الساق على أن لا تنزل إلى مستوى الكوع وأن لا ترتفع عن الركبة.

ويفضل بعض المحامين الاحتفاظ بروبه وعدم تعددها ويعتز بأن تلفت الانتباه عندما تتقادم وتبلى ويتساقط فراؤها لأنه يعدها شهادة حية لتراكم الخبرة المهنية بينما يعدد البعض الروبات ويجددها دوريا وبين المحافظين والمعددين المجددين فريق ثالث يتمسك بأن عمر الروب في حدود خمس القرن وفي ذلك يقول الأستاذ افريدريك غابي Frédéric Gabet، نقيب سابق للمحامين في مدينة سينه سين دني Seine-Saint-Denis بفرنسا: “نقتني في حياتنا ثلاث روبات: نؤدي اليمين في الأولى ونكسب قوتنا في الثانية ونموت في الثالثة”.. نسأل الله تعالى أن يختم بالصالحات أعمالنا وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

2. طبخة المحامي الجزافية
ليست لقمة المحامي دائما سائغة ولذلك فلا غرو أن نحسد زملاءنا الطباخين الذين يتذوقون يوميا ما لذ وطاب ويطمئنون بأنهم سيحصلون على أجرهم المعلوم بلا مساومة وقبل أن يجف عرقهم لأن زبناءهم يطلبون طبقا معلوم النوع والمقدار ومحدد الثمن في قائمة معلقة بينما يتطلع عملاؤنا إلى طبخة ملتبسة وغير واضحة المعالم ربما تطلب تحضيرها عناية مستقبلية قد لا يقدرها الطاهي نفسه حق قدرها وقد تأخذ منه جهدا أكبر أو أقل مما توقعه ومثلما قد يستلذ العميل طبخنا يحتمل أن يعافه لأن “التزام المحامي يظل التزاما بعناية وليس التزاما بغاية” ولهذا وبدل وصف جزاء المحامي بالأجر ابتكرت أدبيات التعامل مصطلح مقابل الأتعاب les honoraires مع أن هذه العبارة الفرنسية تعد سيفا ذا حدين: فبينما تصرف الذهن نحو تثمين الخدمة القانونية لدرجة تجعل تقويمها متعذرا، قد توحي للعميل بأن حق المحامي يظل في حدود المكارمة والعرفان بالجميل ولا عجب إن سار بعض العرب، في هذا التوجه، واعتبروا بأن إكرام المحامي هو تحفيز له على النصح باعتباره ثالث الاثنين الذين قيل عنهم:

إن المعلم والطبيب كليهما *** لا ينصحان إذا هما لم يكرما

إن المتعاملين من أشخاص طبيعيين ومعنويين يلجأون للمحامي إما طلبا لاستشارة قانونية قد تكون إبداء رأي شفهي أو تحرير عقد أو مراجعته وبيان ما يترتب عليه من آثار وإما بشأن النزاعات حيث يكون العميل إما مدعيا راغبا في رفع دعوى ضد شخص طبيعي أو اعتباري وإما مدعى عليه يبغي من يؤازره ويمثله في دعوى مرفوعة ضده.. وفي جميع الحالات يستمع المحامي للعملاء وروايتهم للأحداث والوقائع ويراجع الوثائق التي قد يجد فيها أدلة وربما سعى، إن أعيته، لاستخلاص القرائن وجمعها وفتلها لتشكل حبلا يخدم إثبات دعوى موكله إن كان مدعيا أو يؤيد رد وتفنيد دعوى الخصم إن كان الموكل مدعى عليه.. وفي جل حالات الاستشارة والتمثيل القضائي لا مناص من البحث لاستخلاص المقتضيات ذات الصلة بالموضوع من لوائح إجرائية ونصوص موضوعية وربما تكون العناية المطلوبة معقدة بدرجة لا يدركها العميل ويتعذر عليه استيعابها، حتى عندما تشرح له، لذلك تواجه المحامي صعوبة تقويم مقابل عمله ويشيع لدى المتعاملين استكثار العروض المالية للمحامين ومن المألوف أن يصدع بعضهم بأن المحامي لا يستحق جزاء كبيرا لأنه “لم ينفق شيئا من جيبه” دون تقدير لما قد تجلبه استشارة قانونية مؤسسة ومستنيرة من منافع وما قد يترتب على غيابها من مضار.. وتزيد حدة بخس الجهود الفكرية في البلدان المتخلفة حيث لا يزال الكثيرون يربطون المال بالقيم المادية الملموسة وحيث يتعذر على السواد الأعظم استيعاب واقع انقلاب القيم وما أفرزته طفرة المعلومات من مد في اقتصاد المعرفة بينما تتراجع القيم المادية في أسهم التداول.

وللتغلب على صعوبة تقويم عمل المحامي ابتكرت معايير لقياس أجره يقوم أكثرها اعتمادا على الانطلاق من عامل الوقت بحساب مبلغ جزافي مقابل ساعة العمل الواحدة التي يتحدد مقابلها باعتبار المستوى المهني للمحامي وبضربها في عدد الساعات التي تستغرقها العناية المطلوبة يتحدد مقابل الأتعاب.. أما في القضايا النزاعية المعقدة فقد خلص الاجتهاد القضائي في فرنسا إلى معيار مختلط يقوم على دمج خمسة عناصر: حجم العناية المبذولة + القيمة المادية والمعنوية للقضية + مستوى يسر العميل + مدى مهارة المحامي ومستوى تخصصه + النتائج المتحصل عليها.

ويختلف التعويض إذا كان المحامي يعمل في إطار شركة حيث تتكفل المنشأة بالتعامل مع العملاء وتتبع عدة أساليب في تحديد أجور الزملاء الذين ينقسمون إلى فئات متدرجة فللمحامي اليافع Junior جزاؤه وللبالغ Senior راتبه وللشريك غير المساهم Non-Equity Pertner حسابه وللمساهم Equity Partner نصيبه وفي الغالب تفرض الشركات رواتب دورية (شهرية أو سنوية) تحدد على مراحل متتابعة بحسب درجة المحامي وخبراته lock-step بالإضافة لعلاوات تحفيزية متغيرة تدفع غالبا عند نهاية السنة المالية أما بالنسبة للشركاء الحقيقيين full partnership فقد تكون الاستفادة نسبة معتبرة من مقابل أتعاب القضايا التي يجلبها الشريك ويعالجها طبقا لقاعدة “كل ما اقتنصت” eat what you kill.

وتجنبا للنزاعات توجب أغلب التشريعات أن يكون مقابل الأتعاب موضوع اتفاقية مكتوبة يوقعها الموكل ابتداء إلا أن تكرار التعاملات ومباغتة القضايا التي تستدعي تدخل المحامي كثيرا ما منعت من توقيع اتفاقيات أتعاب وفي تلك الحالات يقوم المحامي بحساب مقابل أتعاب القضية ومصاريفها وتضمينها في محرر يرسله لموكله الذي قد يعترض عليه مما يفتح باب نزاع غالبا ما أخذ التعامل معه جزءا معتبرا من أجندات هيئات المحامين وربما وصل التداعي بشأنه إلى القضاء.

3. المحامي على خطى الطباخ
إذا كان الغذاء ضرورة بيولوجية للبقاء فإن القانون منظومة ضرورية للاجتماع البشري والتكامل والتعايش في انسجام ودون صدام ولذلك كان تطور البشرية في التعامل مع القانون تابعا لنهجها في تحضير الغذاء فبعد أن كان الشخص يعد مائدته البسيطة بنفسه له ولمقربيه ويقدم المشورة لمحيطه أدى التحضر بالموسرين إلى اكتتاب متمرسين يتكفلون بتحضير الوجبات التي أضحت أكثر تعقيدا وعلى نفس النهج ومع تشابك القواعد والنظم وتعذر الإحاطة بها تجلت أهمية الاستعانة بشخص ضليع في الشريعة، يعرف طرق استنباط الأحكام ويجيد مخاطبة القضاة، للاعتماد عليه في السهر على المصالح ومتابعة الحقوق وهكذا نشأت المحاماة، كمهنة منظمة، في فرنسا أولا حيث تم إنشاء أول نقابة للمحامين بموجب مرسوم أصدره الملك افيليب الرابع بتاريخ 11 مارس 1345 للميلاد.

ومن استقراء التاريخ نستنتج أن المحاماة، كمهنة منظمة، نشأت في فرنسا وتلقت تكوينها في بريطانيا وعملت في الولايات المتحدة الأمريكية حيث ارتبطت اجتماعيا وتحكمت في جل الأنشطة السياسية والاقتصادية منذ منتصف القرن العشرين قبل أن تتوسع منشآتها في باقي بلدان العالم.

ويلاحظ المتابع لتطور المجتمعات أنه مع اتساع المد المدني وتشعب مهام الإنسان وضغوط الزمان انتشرت المطاعم في الأوساط المدنية وأصبح الكثيرون يطوفون إليها لتأمين الغداء والعشاء وعلى نهجها وجدت مكاتب المحامين وبدأ الناس يعتادون طرقها، ولو بوتيرة غير منتظمة، للحصول على المشورة والتمثيل مع ملاحظة الارتباط بين مستوى اللجوء للمحامين ودرجة الوعي المدني وفي ذلك تتفاوت المجتمعات كما يعكسه عدد الأشخاص الذي يقابل كل محام وهو معدل يتوصل إليه بقسمة مجموع سكان البلد على عدد محاميه ففي “كبيك” Québec (الإقليم الكندي) يوجد محام مقابل كل 324 ساكن وفي الولايات المتحدة الأمريكية يتوفر محام من بين كل 325 ساكن وفي إسبانيا يرتفع العدد المقابل للمحامي الواحد إلى 354 وفي إيطاليا يصل العدد 374 وفي بريطانيا 415 أما في ألمانيا يناهز 524.. ويستمر معدل الأشخاص الذين يقابلون المحامي الواحد في الزيادة إلى أن يصل إلى 10.631 شخص في جمهورية الصين الشعبية التي، رغم مستوى تطورها الاقتصادي، تعد مبتدئة مهنيا إذ لم تعتمد تنظيم مهنة المحاماة إلا في سنة 1990. وبحسب إحصائية نشرتها الهيئة السعودية للمحامين، على موقعها الإلكتروني في مايو 2018، فإن المعدلات في الدول العربية متباينة حيث يبلغ المعدل في الكويت 699 شخصا مقابل كل محام وفي مصر 751 وفي الأردن 794 أما في السعودية فيصل المعدل إلى 6322 شخصا مقابل كل محام.

وكما تبرز ضرورة اللجوء للمطاعم عند الحاجة لمقادير تفوق طاقة مطبخ البيت تستدعى بعض الأعمال الخاصة اللجوء لبيوت تتوفر على خبرات قانونية ومهارات جاهزة لإنجاز بعض الأعمال بعناية خاصة وربما لجأت حكومات بعض الدول لهذه المكاتب طلبا لمساعدتها في إعداد نظام أو قانون معين.. وبالنظر لأن الحاجة للغذاء يومية فقد تطورت أساليب تسيير المطاعم بوتيرة أسرع من وتيرة تطور مكاتب المحاماة فمع الوقت أخذ مسيرو المطاعم يعتمدون على المخابز بدل إضاعة وقت الطباخين في عجن وتحضير الأرغفة ودأب بعضهم لاحقا، بعد التوصل بطلبية الزبون، على اللجوء إلى مطاعم متخصصة في إعداد أصناف معينة ليعهد إليها بتوفير جزء من الوليمة قبل تجميع المأكولات وتسليم المائدة للزبون.. وهكذا وبفضل العناية والتكرار تمكنت أطقم صغيرة كانت تمارس خدمة الطهي في مطابخ هامشية من إتقان وجبات معينة فعزفت عن الاشتغال بغيرها وأفادت منها أرباحا معتبرة.. وعلى خطى المطاعم تخصصت بعض مكاتب المحاماة فاهتم بعضها بالضرائب والرسوم وانكب آخرون على طرق دمج الشركات وفنيات استحواذ بعضها على البعض بينما ركز البعض على التمثيل القضائي وإدارة النزاعات التي يلاحظ أنها انحسرت نسبيا بفعل تشعب وسائل التسوية البديلة التي تغني عن اللجوء للمحاكم لدرجة قول البعض إن التقاضي غدا حادثا عرضيا لافتا للانتباه.

وفي سياق الاعتماد على الإسناد الخارجي ضمن جافين وارد، في النصيحة العاشرة من مقاله “أهم 10 نصائح لتحسين فعالية شركتك”، مقولة للبروفيسور ريتشارد ساسكيند قال فيها: “إن العمل الإداري الروتيني المتكرر القائم على العمليات سيتم تنفيذه من خلال مجموعة متنوعة من المصادر البديلة، على سبيل المثال: بإسناد عمليات قانونية إلى الغير، ونقل الأعمال إلى بلد مجاور، ونقل الأعمال إلى الخارج، والتعاقد من الباطن من أجل تقليل تكاليف شركات المحاماة، وهلم جرا” – الصفحة 59 من العدد الأول من مجلة “حقيبة المحامي”، الصادر عن الهيئة السعودية للمحامين بتاريخ 1 يناير 2019.

وجملة القول أنه مع التقدم البشري تكونت شركات إعاشة ومحاماة كبرى في الولايات المتحدة الآمريكية وتطور نشاطها ولما فضلت خبرات طبخ الغذاء وطهي القانون عن موطنها في العالم الجديد عبرت البحار شرقا حيث اكتسحت مطابخها ودكاكينها أغلب المدن الكبرى ونجحت في جذب الكثير من المستهلكين.. وكان تطور المطاعم بوتيرة أسرع من مكاتب المحاماة كما تظهره مقارنة الشركتين الأمريكيتين الرائدتين في المجالين فعلى الرغم من أن المحاميين راسل باكير Russel Baker وجون ماكنزي John McKenzie قد أنشآ شركة المحاماة Baker & McKenzie، منذ سنة 1949 إلا أن شركة McDonald’s التي أنشأها معاصرهما راي اكروك Ray Kroc في سنة 1952 اكتسحت أسواق العالم حتى تجاوز عدد مطاعمها اليوم 37.855 مطعم وأصبحت تستخدم أكثر من 210.000 عامل موزعين في أزيد من 100 دولة بينما تفاخر شركة المحاماة الرائدة Baker & McKenzie بتمثيل في 47 بلدا وباستخدام 4.719 محام.

ومثلما نجحت بعض شعوب الشرق في الإفادة من فرص التشغيل التي توفرها صناعة الطعام وقدم مواطنوها إسهامات فعالة في تطوير مشاريع الإعاشة أعتقد أن العرب مؤهلون لاحتلال الصدارة في صناعة الخدمات القانونية، إن هم استغلوا مواردهم البشرية واستوعبوا المستجدات القانونية وأحسنوا توظيف مخزونهم من الفقه والبيان اللذين ورثوا منهما حظا وافرا.. ولذلك يتعين التفكير في بلورة “إستراتيجية تطوير صناعة المحاماة العربية” التي نشرت تصورا مبدئيا لها في العدد الثاني من مجلة “حقيبة المحامي” الصادر عن الهيئة السعودية للمحامين بتاريخ 1 ابريل 2019.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى